كتب منير الربيع في “المدن”:
خفايا كثيرة لم تتوضح حتّى الآن حول اشتباكات الساحل السوري وخلفياتها. فإلى جانب الروايات العديدة التي أصبحت معروفة، تبقى هناك روايات أخرى، من بينها ما يرد عن دخول إيران بشكل مباشر على خطّ هذا الصراع، لأن طهران كانت قد علمت بمفاوضات جدية تقودها الولايات المتحدة الأميركية لإرساء تفاهم بين دمشق والأكراد، فجاءت معركة الساحل لقطع الطريق على أي مصالحة بين أحمد الشرع والفصائل الكردية. لكن ما يتضح أكثر هو حجم الاهتمام الأميركي بسوريا، والحفاظ على وضعية الشرع مع إعطائه فرص سياسية كثيرة. وما يمكن قوله باختصار، إن واشنطن هي التي وفرت كل مقومات الصمود للشرع، خصوصاً بعد معركة الساحل، وفي ظل المساعي المستمرة لإصلاح العلاقة مع الدروز.
غرفة عمليات
بالتزامن مع المعارك التي كانت قائمة في الساحل، كانت غرفة عمليات أميركية مهمتها مواكبة الملف السوري، تضغط في سبيل معالجة الكثير من الملفات العالقة، أولها معالجة العلاقة بين دمشق والأكراد، وبين دمشق والسويداء. وقد تركز العمل على خفض التصعيد بشكل نهائي بين دمشق وشمال شرق سوريا، بالإضافة إلى العمل على تهدئة الوضع في الساحل مع إعطاء هامش للشرع كي يحسم. شدد الأميركيون على ضرورة تجميد أي نشاط لبعض القوى العسكرية الموالية لتركيا، وخصوصاً “فرقة سليمان شاه” بقياد محمد الجاسم المعروف بلقب “أبو عمشة”. لا سيما أن الكثير من المجازر التي ارتكبت في الساحل السوري تتحمل مسؤوليتها هذه الفصائل، وخصوصاً “العمشات” و”الحمزات”. وقد اعتبر الأميركيون أن هذا سيؤدي إلى تفجير كل الواقع السوري، بالإضافة إلى إصرار الفرقتين على خوض المعارك ضد الفصائل الكردية ورفض الاتفاق. يتواصل الضغط الأميركي لإخراج هاتين الفرقتين من الساحل السوري بشكل كامل، وصولاً إلى العمل على حلّ الفصيلين. بينما في المقابل، هناك إصرار لدى الحمزة وأبو عمشة على البقاء في الساحل وعلى مواصلة القتال ضد الأكراد. وهذا يشير إلى إمكانية بروز توتر أميركي- تركي بسبب الاختلاف في المقاربات.
غطاء أوروبي
في الموازاة أيضاً، كانت هناك مفاوضات روسية سورية، أصبحت معروفة الآن بعد تصريح الشرع لوكالة رويترز حول التفاوض مع الروس على مسألة بقائهم في القواعد العسكرية في اللاذقية وطرطوس. هنا تتداخل الحسابات الجيوستراتيجية للدول على الساحة السورية. إذ أن الأوروبيين لا يعتبرون أن مصلحتهم تقتضي باستمرار السيطرة الروسية على الموانئ السورية. لذا، كانت هناك مواقف أوروبية واضحة تدعو الى الحفاظ على وحدة سوريا، ورفض حصول أي اهتزاز أمني أو عسكري. بدا ذلك وكأنه غطاء للشرع كي يحسم المعركة ويعيد السيطرة على الساحل. على الرغم من المواقف الأوروبية الواضحة التي كانت تشير إلى ضرورة حماية الأقليات ووقف ممارسة العنف، لكن الهم الأكبر هو عدم ترك روسيا هي المتحكمة بمنطقة الساحل، وتوفير الدعم للشرع كي لا يكون مضطراً للاستسلام إلى موسكو. هنا لا بد من التذكير بأن فرنسا تأخرت في إعلان الاعتراف بأحمد الشرع والترحيب بوصوله، بانتظار أن تضمن تجديد عقد شركة cma cgm في مرفأ طرطوس. وللمفارقة أنه في اليوم الذي جرى تجديد العقد صدر الترحيب الفرنسي على لسان الرئيس إمانويل ماكرون.
المصلحة الأميركية
على الرغم من هذه المواقف الأوروبية، تبقى هناك نقطة غير محسومة بالنسبة إلى الأوروبيين، وهي تتصل بالعلاقة الروسية الأميركية. إذ لم يتمكن الأوروبيون من تكوين تصور واضح حول حقيقة الموقف الأميركي من الوجود الروسي في سوريا. في المقابل، عمل الأميركيون على ممارسة ضغوط على إسرائيل لتخفيف حدة الضغط العسكري والسياسي على سوريا. فعلى الرغم من الالتقاء الأميركي الإسرائيلي استراتيجياً، هناك خلاف أساسي على طريقة إدارة الملف. ويعتبر الأميركيون أن ما يقوم به الإسرائيليون يهدد بتفجير المنطقة ككل على أساس طائفي أو عرقي أو قومي، وهو لا يصب في المصلحة الأميركية، وسط تركيز على حماية الاستقرار. لذلك، عملت واشنطن على تقديم مقترحين لمعالجة علاقة دمشق مع الأكراد ومع الدروز، مع توفير ضمانات أميركية للأكراد والدروز بعدم التعرض لهم من قبل دمشق، وتوفير كل الضمانات الأمنية لهم.
إصرار الأميركيين على تحقيق مصالحة دمشق مع الأكراد، يُعد مشكلة بالنسبة إلى تركيا، أو يندرج في سياق تضارب المصالح. أما إصرار الأميركيين على دعم الشرع ليتمكن من الحفاظ على السلطة في دمشق، مع ما يقتضيه ذلك من الوصول إلى اتفاق مع الأكراد، قد يُعد مشكلة بالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، التي تقول منذ اليوم الأول إنها تسعى إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ. كذلك، هناك استنفار تركي إسرائيلي. ففي الوقت الذي تسربت فيه أخبار عن نية أنقرة بناء قواعد عسكرية في البادية السورية، كانت إسرائيل تسرب مشروعها للدخول من الجنوب السوري باتجاه السويداء ومنها إلى البادية وصولاً إلى شمال شرق سوريا، أي فتح خط مباشر مع الأكراد.
هنا تزايدت الضغوط الأميركية، من أجل عدم انفجار الوضع السوري بشكل كامل. وفي موازاة كل التضارب في الحسابات، يواصل الشرع نشاطه السياسي المتصل بتكوين السلطة، من إطلاق الإعلان الدستوري، إلى البحث في تشكيل حكومة على الأرجح ستكون من 22 وزيراً. وهو سيضم إليها وزيراً كردياً، وآخر مسيحياً، مع إمكانية انضمام وزير درزي. وذلك يتوقف على توقيع الاتفاق النهائي مع الدروز في السويداء، وهم ينقسمون بين من يؤيد ويتحمس لتوقيع الاتفاق ومن لا يزال يتريث، فيما تتواصل المساعي الأميركية لإنجاز هذا التفاهم، والذي سيكون عبارة عن اعتماد مبدأ اللامركزية الموسعة، بما تتضمنه من احتفاظ كل منطقة بفصائلها وبنوع من اللامركزية الضرائبية أو المالية، بما يرضي هذه المكونات.
ما تريده إسرائيل
إسرائيل حتى الآن لا تبدو أنها تتمتع بقناعة واضحة أو برنامج لما تريده في سوريا، هناك ما يشير إلى ضياع إسرائيلي في كيفية التعاطي مع الملف السوري، وما إذا كانت تريد لسوريا أن تكون مستقرة على سلطة أساسية في دمشق مع توسيع هامش اللامركزية بالنسبة إلى المناطق الأخرى، على أن يكون ذلك مقابل دخول الشرع في مفاوضات سياسية أو ديبلوماسية معها، قد يكون الهدف منها الوصول إلى اتفاق. أم أن مصلحتها تقتضي بقاء حالة انعدام الاستقرار والصراعات الداخلية في سوريا، كي تشغلها عن التأثير في الساحات الأخرى.. أم نسج تفاهمات مع دمشق مقابل ضمان عدم التسبب بأي اهتزاز للاستقرار على الحدود مع إسرائيل، وبضمان ضبط الحدود اللبنانية، ومنع أي شكل من أشكال تهريب الأسلحة أو الأموال لحزب الله. أم أن إسرائيل تريد تكريس أمر واقع سياسي بالاستناد إلى ما حققته عسكرياً، من خلال عملية القضم العسكري والجغرافي، والاحتفاظ بما سيطرت عليه، أم أنها تريد الوصول إلى اتفاق سلام مع دمشق مع تخلي الأخيرة كلياً عن الجولان. بالنسبة إلى سوريا، فما تريده هو العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك في العام 1974، ولا يريد الشرع الدخول في اتفاق سلام، ولا يريد التنازل عن الجولان.
تركيا وإيران
أما تركيا، فهي تعتبر نفسها متضررة من الاتفاق بين دمشق والأكراد، فهي لم تكن شريكة بما جرى، ولا تزال أنقرة تشدد على ضرورة حلّ الفصائل العسكرية الكردية، ولا توافق على اندماج هذه القوات ضمن التشكيلات السورية الجديدة. هذه التطورات، دفعت بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإجراء زيارة إلى دمشق، لمناقشة كل الملفات. لكن بوادر عدم الاتفاق تظهر من خلال تراجع لدى “العمشات” و”الحمزات” عن الاستعداد لحل نفسيهما عسكرياً والانضواء ضمن التشكيلات السورية، علماً أن هذين الفصيلين يصران على مواصلة القتال ضد المجموعات الكردية.
إيران في هذه المعادلة، تبدو الطرف الأضعف والأكثر غياباً. فهي ربما أرادت استغلال أي فوضى في سوريا، من أجل إعادة فرض نفوذها وفتح طرق الإمداد العائدة لها. وهو ما حاولت التقاطع عليه مع روسيا من خلال أحداث الساحل. تلك الأحداث التي تعتبر دمشق أنها أجهضتها وقد حصلت على دعم دولي وعربي لذلك. حسابات إيران، سورياً، ولبنانياً، لا بد لها أن تنعكس على حسابات إسرائيل. فإن كانت تل أبيب تريد استمرار الفوضى في سوريا لتمرير مشروعها وتحقيق أهدافها، لا بد لها أن تنظر بعين أخرى إلى أن طهران وحدها الجاهزة للاستثمار في هذه الفوضى وإعادة ترتيب مشروعها. في دمشق، ثمة من يقول إن الحسم في ذلك سيكون بيد الأميركيين وما يتوصلون إليه مع إيران، إما تصعيداً أو تفاهماً. ولكن على الرغم من كل التحديات والمخاطر، يبقى المسؤولون في دمشق يعبرون عن ارتياحهم لمسار الأمور، وللموقف الأميركي.