كتب خضر حسان في “المدن”:
اعتاد اللبنانيون تحرّك الأسعار عند كل مناسبة أو أزمة. ويورد كبار التجّار والمستوردين تبريرات دائمة لارتفاع الأسعار، جلّها قصص ترمي الكرة في ملعب الدول المُصَدِّرة أو دول المَنشأ. لكن في المقابل، هناك رأي آخر يضع الأمور في نصابها الصحيح، استناداً إلى الواقع والقوانين التي تؤشر بوضوح إلى تجاوزات يدفع المستهلك ثمنها. ومع أنّ وزارة الاقتصاد، وتحديداً عبر مديرية حماية المستهلك، تحاول ضبط التجاوزات، لكن تبقى نحاولاتها بلا تأثير فعلي في السوق. ويعتبر المدير العام للوزارة محمد أبو حيدر، أنّ هناك حاجة لتعديلات قانونية تصبّ في صالح المستهلك، فيما يرى رئيس جمعية المستهلك زهير برّو، أنّ الأزمة متجذّرة.
لا تحديد للأسعار
لم يتغيّر روتين انفلات الأسعار والجشع في شهر رمضان وزمن الصوم عند المسلمين والمسيحيين. (راجع المدن)
ومع أنّ الجشع مُدان أخلاقياً، إلاّ أنّه مُشَرَّعٌ بحجّة السوق الحر الذي يُستَعمل شمّاعة لتبرير ارتفاع الأسعار وفق قاعدة العرض والطلب. وبالتالي، فإن زيادة الطلب على الاستهلاك في رمضان وزمن الصوم، يُبرِّر للتجّار -من منظورهم- رفع الأسعار استناداً إلى تلك القاعدة. وللتخفيف من وطأة اللّوم، يلجأ بعض التجّار إلى إصدار بيانات تفيد بأنّ التجّار في الدولّ المصدِّرة رفعوا أسعارهم.
أمّا غضّ الطرف القانوني عن ارتفاع الأسعار، فيظهر من خلال عدم لحظ قانون المنافسة وقانون حماية المستهلك أي إشارة إلى تحديد الأسعار، بل على العكس من ذلك، تنصّ المادة 4 من قانون المنافسة رقم 281/2022، على أنّه “تحدد أسعار السلع والخدمات على الأراضي اللبنانية وفقاً لقواعد السوق ومبادئ المنافسة الحرة باستثناء الأسعار التي تحدد قيمتها بقرار من مجلس الوزراء، بعد أخذ رأي الهيئة الوطنية للمنافسة، بمقتضى إجراءات مؤقتة لمواجهة ظروف استثنائية، أو حالة طارئة أو كارثة طبيعية على أن يعاد النظر في هذه الاجراءات خلال مدة لا تزيد عن ستة اشهر من بدء تطبيقها قابلة للتجديد مرة واحدة. ويستثنى من أحكام هذه المادة الأدوية والمستلزمات الطبية والمتمّمات الغذائية المستوردة أو المصنّعة محلياً أو المعلّبة محلياً بحيث يخضع تسعيرها للقوانين المرعية الإجراء”. كما تحظر المادة 7 من القانون عينه “تحديد أو تثبيت أسعار السلع وبدل الخدمات وشروط البيع أو الشراء وما في حكمها، بطريقة مصطنعة”.
بالتوازي، يحمي قانون حماية المستهلك رقم 659 تاريخ 04/02/2005، حقوق المستهلكين لجهة عدم الإضرار بصحّتهم أو خداعهم بمنتج معيّن. وترعى مديرية حماية المستهلك تلك الحقوق سنداً للمادة 64 التي تنصّ على أنّه “تتولى مديرية حماية المستهلك، بالتنسيق مع الجهات الرسمية والخاصة، تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة بحماية المستهلك لا سيما التثبّت من نوعية وسلامة الخدمات والسلع، وخصوصاً الغذائية منها، والقيام بالفحوصات اللازمة بشأنها. مراقبة الأسعار وحركتها. إعداد الوثائق والنشرات الخاصة بتوعية المستهلك وارشاده. القيام بالأبحاث المتعلّقة بالمواضيع المذكورة أعلاه”.
وبذلك، فإنّ واقع الحال يشير إلى أنّ لا تحديد للأسعار بحسب القانون، إلاّ بحالات استثنائية ومحدّدة لا تنعكس نتائجها انخفاضاً في الفاتورة اليومية للمستهلكين.
الرقابة غير كافية
يُدرك أبو حيدر، أنّ غلاء الأسعار في رمضان وزمن الصوم، أمرٌ غير مقبول. لكن سلطة الوزارة والمديرية في هذا السياق، مقيّدة جداً بحكم القانون. ويشير في حديث لـ”المدن” إلى أنّ محاضر الضبط التي تنظّمها المديرية بحقّ المخالفين، سواء من أصحاب المطاعم أو الملاحم ومحال الخضار وغيرهم “تبقى غير رادعة”. ولأن العقوبات مخفّفة “يفضّل المخالفون دفع قيمة الضبط وتسوية أوضاعهم والاستمرار بعملهم، وصولاً إلى تكرار المخالفة، فالقيمة المالية لمحضر الضبط ضئيلة جداً مقارنة بالأرباح التي يتم تحقيقها من خلال المخالفات بالأسعار والجودة”. ولذلك، فإنّ “زيادة عدد مراقبي المديرية وتحرير المزيد من محاضر الضبط، لن يوصل إلى النتيجة المطلوبة”.
هذه النتيجة تحتاج إلى تغييرات كبيرة في التشريع. فيقول أبو حيدر إنّه يجري في لجنة الاقتصاد النيابية، نقاش “حول إدخال تعديلات على قانون حماية المستهلك، ومنها على سبيل المثال، زيادة العقوبة عبر رفع قيمة الغرامات المالية وصولاً إلى حدّ سجن المخالفين. وأيضاً إعطاء مراقبي وزارة الاقتصاد بعض صفات الضابطة العدلية بعد استشارة القضاء، بالإضافة إلى السماح بنشر إسم المحال التجارية المخالِفة، في حين أنّه في الوقت الراهن يمنعنا القانون من التسمية، وإلاّ يحق لمن نسمّيه، رفع دعوى علينا، حتى لو كان مُخالِفاً”.
الأزمة متجذّرة
يذهب رئيس جمعية المستهلك زهير برّو، أبعد من الحدود التي وصل إليها أبو حيدر الذي يجد أنّ التعديلات القانونية المطروحة يمكنها المساهمة بحلّ الأزمة. فبالنسبة إلى برّو، الأمور أعقد من إجراء بعض التعديلات القانونية، لأنّ جوهر المشكلة يقبع في “عدم وجود منافسة حقيقية وغياب دعم الإنتاج المحلّي وعدم وجود الاستقرار الأمني والاقتصادي. فهذه العوامل تؤدّي إلى ارتفاع الأسعار”.
ويقلّل برّو خلال حديث لـ”المدن”، من فعالية حملات الرقابة أو إعطاء المراقبين بعض صلاحيات الضابطة العدلية. فهذه المسألة “يمكنها أنّ تجمِّد بعض الاستغلال وتؤدّي إلى ضبط معنوي لارتفاع الأسعار. فطالما أنّ الأسعار حرّة وفق القانون، يستحيل ضبطها، بل يُمنَع ضبطها وتحديدها”.
ويأسف برّو لاستمرار هذا الواقع وارتفاع الأسعار وانفلاتها المستمر. ولا يعوِّل على الدولة لإجراء أي تغيير لأن المشكلة هي في النموذج الاقتصادي القائم. ويستدّل على ذلك من خلال “أموال الدعم التي ذهبَت إلى التجّار في بداية الأزمة الاقتصادية، فاستورَدَ هؤلاء البضائع، في حين غاب الدعم الفعلي للقطاع الزراعي والإنتاجي في لبنان”. وموقف برّو من تجذّر أزمة الأسعار، يستدلّ عليه أيضاً من خلال “تسجيل لبنان، منذ ما قبل الأزمة، معدّلات أسعار أعلى بـ30 بالمئة مقارنة مع الأسعار في الدول العربية المحيطة وأيضاً مع تركيا وإيران وحتّى إسرائيل، ويعود ذلك للاحتكار وغياب الإنتاج المحلّي، إذ نستورد نحو 90 بالمئة من حاجاتنا الاستهلاكية”.
ويستغرب برّو “كيف يلجأ بعض التجّار إلى التذرّع بارتفاع الأسعار في الخارج لرفع الأسعار في لبنان، فجميعة المستهلك بيَّنَت أكثر من مرّة أنّ هذ االامر غير صحيح. فعلى سبيل المثال، تراجعت أسعار اللحوم عالمياً بمعدّل 2 بالمئة منذ بداية العام الجاري، مقارنة مع أسعار العام الماضي، ومع ذلك، ارتفعت أسعار اللحوم في لبنان مع بداية شهر رمضان”.
إنّ ضمان حرية حركة الأسعار بحجّة اقتصاد السوق، وواقع الفساد في لبنان الذي يشرِّع سلطة الاحتكار بحكم الأمر الواقع، يعني أنّ انفلات الأسعار أمر مستمر. ويبقى على المستهلك اتخاذ قراره بشراء سلعة والتخلّي عن أخرى بحسب قدرته المادية، وعدم تعليق آمال كبيرة على محاضر الضبط التي يحصل عليها بعض المخالفين. فالرقابة في لبنان “على القطعة” وليست نهجاً عامّاً.