كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
الفارق الأساس بين ما اصطلح على تسميته بالمارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية، يكمن في المشروع السياسي وليس في الأرجحية على مستوى الحكم والسلطة، فمشروع الشهيد رفيق الحريري لا يختلف عن مشروع المارونية بأن يكون لبنان دولة مستقرة ومزدهرة خلافاً لمشروع الشيعية القائم على وحدة الساحات والحرب والفوضى.
وما اصطلح على تسميته بالسنية السياسية غير دقيق، لأن الشهيد الحريري كان محكوماً بسقف الاحتلال السوري من جهة، وسقف ما يسمى بالمقاومة من جهة أخرى، وكان مكبلاً بالسياسة المالية والاقتصادية من خلال مجموعة “الشغب” داخل مجلسَي الوزراء والنواب، وأرجحيته في السلطة انتزعها بفعل شخصيته وعلاقاته، وكان هدفه إحياء المشروع اللبناني التاريخي.
فالإشكالية ليست في الأرجحية التي تنتزعها هذه الفئة او تلك بممارستها وفقاً للدستور ومن دون التغييب المتعمّد للفئات الأخرى، لأن أي أرجحية قائمة على غلبة مرفوضة وساقطة، إنما الإشكالية الفعلية كانت وما زالت في المشروع السياسي الذي شكل محور الخلاف والانقسام منذ نصف قرن إلى اليوم، وآخر مظاهر هذا الانقسام تمثّل في الشيعية السياسية في بعدَي المشروع السياسي والأرجحية على مستوى السلطة، والهدف من هذه الأرجحية ليس التنافس السلطوي المعهود، إنما الإمساك بمفاصل السلطة بهدف ربط لبنان بقوة الأمر الواقع بالمشروع الإيراني التوسعي.
وأصبح من الثابت أن المشروع الإيراني في لبنان الذي بدأ إبّان الحرب، وتوسّع مع الاحتلال السوري، وتحكّم بالقرار بعد خروج هذا الاحتلال، انتهى مع حرب الطوفان ليس بسبب اغتيال أمينه العام وقيادته وتدمير بنيته العسكرية فحسب، إنما بفعل الأجندة أو الرؤية الدولية للبنان وضرورة خلوّه من الوجود الإيراني المسلّح بواسطة “حزب الله” الذي هو كناية عن فرع من فروع الجمهورية الإسلامية التوسعية.
فما حصل هو زلزال كبير، ولأن لأي زلزال هزاته الارتدادية، فالنسخة العسكرية لـ “حزب الله” لن تنتهي بكبسة زر on-off، إنما القرار الدولي اتّخذ، ولا يتعلّق بلبنان حصراً الذي لن يكون بعد اليوم ساحة لإيران وقوة عسكرية لـ “حزب الله”، بل يشمل الدور الإيراني بجوهره، فضلاً عن أن آليات تنفيذ هذا القرار صارمة جداً انطلاقاً من ثلاث لاءات: لا للأعمال العسكرية من جنوب لبنان، لا لدور “الحزب” العسكري في لبنان كله، أي على مساحة الـ10452 كلم²، ولا لدخول السلاح من سوريا، وأي محاولة لتحريك سلاحه لا يتدخّل لبنان للجمها ومعالجتها، سيتدخّل المجتمع الدولي لضربها.
وبما أن الشيعية السياسية بعمقها الإيراني انتهت، فماذا يعني هذا الانتهاء؟ وماذا بعد هذه الحقبة؟
يعني أن البعد الخارجي للأزمة اللبنانية الذي امتد فصولاً منذ العام 1965 انتهى، ومعلوم أن هذا البعد شكّل تاريخياً المسبِّب الأساس لأزمات لبنان الوطنية والسياسية، وحال دون التوافق بين اللبنانيين على دور لبنان، وهذا ليس تفصيلاً لأن الإجابة عن التساؤل التاريخي “أي لبنان نريد”؟ تكون سلكت طريقها بفعل الأمر الواقع الدولي.
وأما لجهة ماذا بعد هذه الحقبة، فإن إعادة تشكُّل الحياة الوطنية بعد هذا التطور الاستراتيجي الكبير ستأخذ وقتها ومداها، لأنه ليس تفصيلاً أيضاً أن لبنان سيكون للمرة الأولى منذ 34 عاماً من دون مصادرة لقرار الدولة، ولكن الاتكاء في هذه المرحلة الجديدة لا يفترض ان يُترك لردود الفعل ولا للمصادفات، ولا يفترض أيضاً الغرق في تفاصيل الحياة السياسية واستحقاقاتها ويومياتها، إنما الحاجة ملحة لصياغة تفاهم تاريخي حول البعد الداخلي للأزمة اللبنانية، ومن دون هذه الصياغة سيبقى لبنان معرضاً لهزات وارتدادات، فضلاً عن أن اللحظة مواتية ويجب دوماً “دقّ الحديد وهو حامي”.