عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
لطالما اعتبرت القارة الافريقية بمنزلة «حديقة خلفية» للنفوذ الفرنسي ذي الجذور الاستعمارية، الذي كان يصبّ في نهاية المطاف بإطار تعزيز منظومة الهيمنة الغربية على القرار العالمي. ومع أنّ حركات التحرّر في القارة السمراء، وصلت إلى الاستقلال كما في الدول الأخرى التي كانت تعاني من الاستعمار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلاّ أنّ النفوذ الاستعماري الفرنسي استمرّ بأشكال وأنماط مختلفة، من دون أن تنجح افريقيا في التخلص منه.. إلاّ بالدعم الروسي.
والحال أنّ القارة الافريقية استفادت من تحوّلها إلى «ساحة نزال» جيوسياسي بين موسكو وعواصم الغرب، من أجل طرد النفوذ الفرنسي، فمع بدء عام 2025، صار من الواضح أنّ باريس تجرجر أذيال الخيبة، بعد فقدانها «الدجاجة التي كانت تبيض ذهباً».
تعزيز الأمن الغذائي
في السنوات الأخيرة، بدأ النفوذ الفرنسي في ما يُعرف بدول الساحل الافريقي وغربها، ينهار مثل أحجار الدومينو. وبعد طردها مع نظرائها في حلف شمال الأطلسي «الناتو» من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وإقفال قواعدها العسكرية، اغتاظت باريس من تطور العلاقات بين هذه الدول الثلاث وموسكو، ومضيها في تأسيس «كونفدرالية الساحل» لتكون بديلاً عن «إيكواس»، الذي كان يجمعها مع دول افريقية أخرى، في منظمة خاضعة بالكامل للهيمنة الفرنسية والغربية. أما الهدف من علاقة الكونفدرالية مع روسيا، فكان:
– توحيد جهود مكافحة الإرهاب، الذي يحظى بدعم غربي موثق.
– تنسيق المواقف السياسية والاستراتيجية.
– التعاون الاقتصادي، وصولاً إلى إصدار عملة موحدة، تحل مكان الفرنك الافريقي، الذي فرضه الاستعمار الفرنسي وإلزامية وضع احتياطياته النقدية في الخزينة الباريسية.
في سبتمبر 2024، وقّع رؤساء الدول الثلاث المذكورة اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، وبموجبه سوف تحصل الدول الافريقية على صور الأقمار الاصطناعية من أجل تعزيز أمنها الحدودي، بما يقوض «المسرحية الفرنسية» التي استمرت طوال عقد ونيف من دون أن تفضي إلى نتائج ملموسة على صعيد الأمن القومي لهذه الدول.
هذه الاتفاقية لا تعبّر إلاّ عن وجه واحد من أوجه التعاون الروسي ـ الافريقي، الذي انطلق من معادلة «رابح ـ رابح» بعيداً عن سياسات الهيمنة والاستئثار بثروات الشعوب والانتهاك المستمر لسيادتها الوطنية. بينما الأمن الغذائي كان النافذة الأخرى التي اقتحمت من خلالها موسكو، المجال الجيوسياسي الفرنسي – الغربي.
أهمية جيو – اقتصادية
حرصت موسكو على تزويد دول القارة السمراء بالقمح، الذي يُعدّ «رئة غذائية» تتنفس من خلالها الشعوب التي تعاني من فقر مدقع، خصوصاً خلال جائحة كورونا، ومن ثم غداة اندلاع الصراع في أوكرانيا. تُظهر الإحصائيات ارتفاع منسوب صادرات القمح الروسي إلى افريقيا خلال عام 2024 بنسبة 35% عن الأعوام السابقة. من بينها 200 ألف طن من الحبوب أرسلته موسكو بشكل مجاني إلى الدول الأكثر فقراً، إنفاذاً لوعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة «روسيا ـ افريقيا» المنتدى الاقتصادي في يوليو 2023. لا يمثّل الأمن الغذائي، سوى أداة تعزّز من صدقية الشعارات التي ترفعها موسكو، مثل «عالم متعدد الأقطاب» و»استقلالية الشعوب وحريتها» وغيرها.
هذه العناوين تُعدّ من أبرز عوامل جذب شعوب وقادة دول افريقيا لتطوير الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، حيث تعتزم الأخيرة تطوير نظام للمدفوعات بالعملة الوطنية، مع العديد من الدول الافريقية من أجل تسهيل تسويات التجارة، خصوصاً عن طريق تكتل «بريكس» الذي يضم 3 دول من القارة السمراء، هي، جنوب افريقيا وإثيوبيا ومصر. ناهيك من تعزيز روسيا من حضورها في الساحة الافريقية عبر مختلف أدوات القوة الناعمة، مثل التوسع في سياسة المنح الدراسية لأبناء القارة، والمساعدة في بناء كوادر إدارية لخدمة أهداف الدول وبرامجها المستقبلية، عبر ورش عمل ومؤتمرات دورية، فضلاً عن توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية.
في المقابل، نجد أنّ دولاً مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ومعها تشاد وموريتانيا، التي تشكل ما يعرف بـ»دول الساحل»، تُعدّ من أفقر دول العالم، رغم أنّها تتمتع بثروات معدنية هائلة، مثل الذهب واليورانيوم والفوسفات، إلى جانب الثروات النفطية، وهذا يُكسب المنطقة أهمية جيو اقتصادية. لكن شعوب هذه الدول حُرمت من عوائد وخيرات هذه الثروات الهائلة، لحساب فرنسا بالدرجة الأولى وكذلك للغرب. إذ تشير تقديرات خبراء متخصصين الى أن 80% من موارد الثروات التي يتم استخراجها في القارة السمراء برمتها تتحكم بها باريس، إمّا لصالحها مباشر أو من خلال الاستفادة من عوائدها أو عبر بيعها لأطراف ثالثة.
زيارة بوتين
ولمعرفة حجم الفظاظة الفرنسية، تكفي الإشارة إلى أنّ منطقة الساحل الافريقي وغربه عرفت منذ استقلالها الشكلي 40 تدخلاً عسكرياً فرنسياً. وأحدثها عملية «سرفال» في مالي 2013، وعملية «برخان» في الساحل عام 2014. هذه العمليات كانت من الأدوات التي استخدمتها باريس لإعادة إنتاج استعمارها، إلى جانب التغول الثقافي، وفرض أنماط اجتماعية، ونخب عسكرية بأشكال خبيثة. وبعدما طُردت من دول الساحل الثلاث المذكورة، عمد «الناتو» إلى دعم المنظمات الانفصالية والتخريبية، لإشعال المنطقة، إلاّ أنّ التعاون الروسي مع حكومات هذه الدول، أدى إلى احتواء هذا الإرهاب المفتعل، الذي كانت أوكرانيا إحدى أدواته، بعدما درّبت إرهابيين وزودتهم بالمسيرات، ولهذا اتخذت مالي قراراً بقطع علاقتها بكييف.
في كل الأحوال، النتائج الإيجابية للتعاون بين دول الساحل الثلاث مع روسيا، شجعت دولاً أفريقية أخرى على أن تحذو حذو جيرانها. فمع نهاية عام 2024، اتخذت تشاد، ومن بعدها ساحل العاج والسنغال، قراراً بطرد القوات الفرنسية من أراضيها. الأمر الذي أحدث صدمة واسعة في أوساط النخب السياسية في باريس، وسط تصاعد الخطاب المناهض لباريس وأداوت هيمنتها السياسية والاقتصادية والثقافية.
في المقابل، راحت هذه الدول تعزّز من شراكتها مع موسكو. إذ تشير تقارير إلى أنّ الأخيرة في صدد زيادة تمثيلها الدبلوماسي في القارة السمراء، كماً ونوعاً، بالإضافة إلى أنّ الرئيس الروسي يعتزم زيارة عدد من البلدان الافريقية خلال الأشهر المقبلة، لدفع الشراكة بين بلاده والقارة الأكثر فقراً في العالم نحو الأمام. ويفترض أن تمثل هذه الزيارة تحدياً جديداً لمنظومة الهيمنة الغربية في ظلّ مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي، التي من الواضح أنّها لن يكون لها أيّ أثر في افريقيا. كما تعكس الزيارة خطوة إضافية للتحرّر من الغرب، إذ ستتعزز أكثر مع انضمام دول افريقية جديدة إلى تكتل «بريكس» من أجل الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب، في ظل الكراهية المشتركة للهيمنة الغربية بمختلف أشكالها «الناعمة» أو «الخشنة»، وهو عامل مشترك أكثر جاذبية لشراكة طويلة وعميقة بين روسيا والقارة الأفريقية.