عماد الشدياق
أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال المنتدى الاقتصادي الدولي في سانت بطرسبورغ، وكذلك على هامشه، رسائل متعددة الاتجاهات طالت الغرب في المجالين العسكري والاقتصادي. وذلك بعد أن استنكر تسليم الغرب أسلحة بعيدة المدى إلى كييف، متوعداً بـ»الردّ بالمثل» عن طريق أعداء الدول الغربية، ووعد بخلق نظام عالمي اقتصادي متعدّد الأقطاب بالشراكة مع كل من الصين والدول العربية، وكذلك تركيا كأول دولة من دول حلف الشمال الأطلسي (الناتو) تطمح إلى دخول مجموعة «بريكس».
«الردّ بالمثل» حق مشروع
بوتين استنكر موافقة دول غربية عدّة، بينها الولايات المتحدة، على شنّ أوكرانيا ضربات في عمق الأراضي الروسية، ووصف الخطوة بأنّها «سوء تقدير خطير»، سائلاً: «لماذا لا يكون لنا الحق في إرسال أسلحتنا من الطراز ذاته إلى مناطق في العالم توجه فيها ضربات إلى منشآت حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضد روسيا؟». ويبدو أنّ بوتين قصد بذلك حلفاء له مثل كوبا التي أعلنت قبل أيام استقبال غواصة «كازان» الروسية في هافانا (تعمل بالطاقة النووية)، وترافقها 3 سفن بينها الفرقاطة «الأدميرال غورشكوف» إضافة إلى ناقلة نفط وقاطرة إنقاذ. ومن المقرر أن ترسو «كازان» في العاصمة الكوبية بين 12 و17 من شهر حزيران/يونيو الجاري. إذ تأتي هذه الخطوة غير المعتادة، تزامناً مع التوتر المتصاعد بين الكرملين والبيت الأبيض بسبب الحرب في أوكرانيا. أمّا الاحتمال الآخر الذي قصده بوتين، فهو ربّما إيران وأذرعها في المنطقة، مثل «جماعة الحوثي» في اليمن، أو «حزب الله» الذي أظهر في الآونة الأخيرة، نقلةً في نوعية الأسلحة المستخدمة في الحرب الدائرة بينه وبين العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان، حيث تمكّن الحزب من إسقاط مسيرات إسرائيلية حديثة، وكذلك إرغام المقاتلات الحربية على التراجع عن الأجواء اللبنانية، من خلال تهديدها بصواريخ أرض – جو، ظهرت للمرة الأولى في المواجهات مع إسرائيل. وسيناريوهات كهذه يمكن أن تقلب المشهد الإقليمي والدولي رأساً على عقب، فيما لو قرّرت موسكو بالفعل أن تمدّ كوبا أو إيران وأذرعها العسكرية بهذه الأسلحة النوعية، وذلك من باب الردّ على التمادي الغربي عبر كييف… خصوصاً في حال وصلت هذه الأسلحة إلى الجماعات الموالية لإيران في اليمن، أو في العراق واستطاعت عبرها كذلك، ضرب القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في دول الشرق الأوسط. بوتين الذي وعد بأنّ موسكو «ستفكر في الأمر»، اعتبر في الوقت نفسه أنّ الأحاديث التي تشير إلى وجود نوايا موسكو مهاجمة دول حلف شمال الأطلسي، هي «مجرّد هراء»، محذراً من أنّ تسليح أوكرانيا هو «خطوة سلبية جداً».
أوكرانيا هي المسؤولة
ولم يكتفِ الرئيس الروسي بالتهديد، بل حمّل الدول الغربية مسؤولية ما يحصل في أوكرانيا اليوم، إذ أعاد التذكير في المنتدى، أنّ موسكو ليست من أشعل الحرب مع جارتها أوكرانيا، وإنّما كييف نفسها هي من فعلت ذلك بعد الثورة التي حملت الموالين للغرب إلى السلطة في عام 2014.. ولكن «لا أحد في الغرب يريد أن يتذكر هذه الحقيقة». وتعيدنا تصريحات بوتين إلى «اتفاقات مينسك» التي وُقعت بين موسكو وكييف وإقليم دومباس بمباركة ورعاية غربية، لكنّها فشلت في وقف اعتداءات كييف ضد الأقاليم الناطقة باللغة الروسية. كما تعيدنا كذلك، إلى تصريحات المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، اللذين أكدا بشكل موارب بداية الحرب في أوكرانيا، أنّ تلك الاتفاقات كانت فرصة مَنَحَها الغرب لأوكرانيا، من أجل إحكام تسلّحها بغية مواجهة روسيا، وهو ما يؤكد نظرية بوتين بالفعل.. ولا يدحضها.
عالم متعدد الأقطاب
أمّا في المجال الاقتصادي، فكانت «التعددية القطبية» العنوان الأبرز للمنتدى الاقتصادي الدولي، الذي تخلله عقد الشراكات التجارية والاتفاقات بين دول ورجال أعمال روس، بحضور مسؤولين حكوميين وسياسيين رفيعي المستوى من أكثر من 45 دولة، وممثلي شركات عالمية من 130 دولة، وبمشاركة أكثر من 17 ألف شخص، بينهم أعضاء في الحكومة الروسية وممثلو شركات كبرى، خلاله أيضاً، شدّد بوتين على أهمية القطاع التكنولوجي، وأشار إلى أنّ روسيا تعمل على إنشاء صناديق تكنولوجية بنيوية وصناعية واعدة، قد توسّع الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، وتساهم في دعم رؤوس أموال المستثمرين، مؤكداً وجود 30 مليون مستثمر على أتمّ الجاهزية للمشاركة. ويعوّل الرئيس الروسي على تغيير بنية الاستيراد والتصدير في روسيا، على الرغم من العراقيل والعقوبات غير الشرعية التي يفرضها الغرب على بلاده. فروسيا ما زالت حسبما يؤكد بوتين من أكبر المشاركين في التجارة العالمية، متحدّية العقوبات والصعوبات كلّها، وذلك بفضل ما وصفه بـ»العمل الفعال مع شركائنا في الاتحاد الأوراسي الاقتصادي». وقال بوتين في كلمته: «يتم تشكيل نظام مستقل للمدفوعات، غير خاضع للضغوط السياسية والعقوبات، في داخل مجموعة «بريكس»، مذكراً بأنّ تركيا قد تكون عضواً جديداً في المجموعة مستقبلاً، وهي خطوة استراتيجية خطتها أنقرة، في وقت سابق من هذا العام. وإذا نجحت تركيا بذلك، فإنّها ستصبح أول دولة من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) تنضم إلى تلك المجموعة… وهذا كفيل بخلق تهديد جدّي للحلف، على الرغم من أنّ مجموعة «بريكس» ذات طابع اقتصادي وليس عسكرياً.
مشاركة عربية واسعة
وكانت لافتة جداً في النسخة الـ27 للمنتدى، المشاركة العربية الفريدة هذه السنة، إذ حضرت 9 دول بينها مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وسوريا، كما حلّت سلطنة عمان «ضيف شرف» بوفد كان الأكبر عربياً، وضمّ عدداً من المسؤولين الرسميين ورجال الأعمال. ناهيك عن الحضور القويّ للصين، باعتبارها الشريك الاقتصادي الرئيسي لروسيا، التي أبرمت في فاعليات المنتدى 1073 اتفاقية بقيمة 6.5 تريليون روبل (73 مليار دولار). الحدث الأبرز في المنتدى، كان تمحور الجلسات حول مواضيع اقتصادية رئيسية، مثل انتقال الاقتصاد العالمي إلى نموذج متعدد الأقطاب، تظهر فيه روسيا والصين لاعبين اقتصاديّين أساسيّين في وجه الهيمنة الأمريكية، وهي الرسالة الأكثر جديّة من بين الرسائل التي حرص المؤتمر على توجيهها إلى العالم أجمع، عبر البوابة الروسية، كما حرص الكرملين من خلاله على التأكيد أنّ الولايات المتحدة ما عاد في مقدورها السيطرة على العالم والهيمنة عليه، وأنّ مركز التنمية الاقتصادية ينتقل اليوم من الغرب إلى جنوب – شرق كوكب الأرض.
كاتب لبناني