سامر زريق نقلاً عن “إيلاف”
اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توقيتاً مثالياُ لتقديم مبادرة جدية من أجل إنهاء الصراع في أوكرانيا، وإرساء السلام بين روسيا والغرب، الذي يعتبر الفاعل الأساسي في تسعير هذا الصراع. تتسم هذه المبادرة بالواقعية، والابتعاد عن المكابرة والشعبوية، وتتضمن خطوات عملية واضحة، تنسجم مع الدوافع التي أملت على موسكو إطلاق العملية العسكرية، وتشكل طوق نجاة للغرب من الأزمات التي يعاني منها مؤخراً.
مبادرة من موقع قوة
طرح الرئيس الروسي مبادرته خلال خطاب له أمام قادة وزارة الخارجية الروسية من موقع قوة، إذ أنها تأتي في الوقت الذي يواصل الجيش الروسي تسجيل تقدمه الميداني على عدة محاور، وفي ظل الأزمة التي تعيشها أوروبا مع صعود قوى اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، والقلق الذي يلف دوائر الدولة العميقة في أميركا من ارتفاع احتمالات وصول الرئيس الأسبق دونالد ترامب الى البيت الأبيض مرة ثانية. إزاء كل ذلك، نجد أن بوتين تحلى بالشجاعة الممزوجة بواقعية شديدة في الشروط التي حددها، حيث أبدى استعداد بلاده لإعلان وقف فوري لإطلاق النار وموافقتها على الشروع في المفاوضات، بمجرد ضمان حقوق الأقليات الروسية، من خلال اعتراف كييف بالوضعية الجديدة لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومقاطعتي زابورجيا وخيرسون، وانسحاب القوات الأوكرانية منها.
وتتخلص الشروط التي أعلن عنها بوتين بإبعاد حلف الناتو وأسلحته عن حدود روسيا، عبر قبول أوكرانيا وضعية الحياد، وتخليها عن مشروع الانضمام إلى “الناتو” وتحولها إلى منصة لأسلحته النووية، وعدم الانحياز لأي تكتل سياسي – عسكري. بالإضافة إلى إيقاف الغرب مساعيه لإضعاف روسيا عبر سلاح العقوبات وغيرها، والتي ثبت عدم جدواها. وتدحض هذه الشروط المزاعم التي دأبت واشنطن على ترويجها حول اعتزام موسكو اجتياح أوروبا عسكرياً، والتي كان الهدف منها توريط أوروبا وإغراقها في مستنقع صراع طويل الأمد يستنزف قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ويقوض وحدتها الهشة.
ولا تختلف هذه الشروط المعلنة في شيء عن لائحة المطالب التي لطالما طالب الرئيس الروسي أميركا وحلفائها بتطبيقها والالتزام بها منذ أكثر من 10 سنوات. وهي نفسها كانت السبب الرئيس في اندلاع الصراع الحالي، نتيجة تعنت واشنطن وإصرارها على المضي في إغراق أوكرانيا، ولا سيما المناطق والأقاليم المحيطة بروسيا بمختلف الأسلحة النوعية والتكنولوجيا العسكرية المتطورة وأنظمة التنصت.
فرصة ثمينة
عدا عن ذلك، فإنَّ مبادرة بوتين تعكس رغبة موسكو الجدية في طي صفحة المأساة الأوكرانية للأبد، ونزع فتيل التوتر مع الغرب وإرساء لغة الحوار. فضلاً عن كونها تشكل فرصة ثمينة للإدارة الأميركية الحالية لتحقيق إنجاز قبيل الانتخابات الرئاسية وتخفيف الضغط عن الخزينة الأميركية، بما قد يسهم في تعزيز فرص الرئيس الحالي جو بايدن بالظفر بولاية ثانية، رغم أن فوز الرئيس الأميركي الأسبق ترامب قد يفتح آفاقاً جديدة للعلاقة المأزومة مع موسكو. كما أنَّها تشكل فرصة ثمينة أيضاً لقادة أوروبا للحد من فورة صعود قوى اليمين المتطرف، رغم أنَّ الأخيرة تمتلك نظرة مختلفة تماماً عن الأحزاب الحاكمة حالياً من يمين الوسط حيال العلاقة مع روسيا، والبعض منها لديه علاقات وثيقة مع موسكو.
والحال أنَّ ارتدادات الصراع في أوكرانيا على اقتصادات الدول الأوروبية، والمعاناة من التضخم وغلاء الأسعار ومشاكل تصريف الإنتاج الزراعي، كانت السبب الرئيس في وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى الحكم في بعض الدول الأوروبية، وفي تسجيلها نتائج بارزة في انتخابات البرلمان الأوروبي، أفضت إلى أزمات سياسية في فرنسا وألمانيا ودول أخرى، الأمر الذي قد يمهد لقلب المشهد السياسي الأوروبي رأساً على عقب، ولا سيما أنَّ بعض قادة أحزاب اليمين المتطرف تحدثوا تكراراً عن نيتهم إيقاف الدعم المالي والعسكري لكييف، وأن نظام الأخيرة بات يشكل عبئاً على أوروبا.
بمعنى آخر، استثمر الرئيس الروسي انتصارات جيشه من أجل تقديم مبادرة تحفظ ما وجه الغرب المأزوم على ضفتي الأطلسي. بيد أن ردود الفعل الغربية الأولية على هذه المبادرة، تكشف عن رغبة بالاستمرار في الغرق وتسعير الصراع، خصوصاً قرار مجموعة الدول السبع (G-7) باستخدام فوائد الأصول الروسية المجمدة لتقديم قرض جديد لكييف بقيمة 50 مليار يورو. مع ذلك، فإنَّ الفرصة لا تزال متاحة لإيقاف النزيف المستمر منذ أكثر من عامين.