كتب ميشال ابو نجم في “الشرق الاوسط”:
أخيراً كشفت فرنسا عن حقيقة موقفها في ملف قرار المحكمة الجنائية الدولية القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وبعد أسبوع كامل من الاحتماء بسياسة الغموض، والامتناع عن التعبير عن موقف صريح، إزاء احتمال القبض على نتنياهو وغالانت في حال دخولهما الأراضي الفرنسية، كما فعلت دول داخل الاتحاد الأوروبي مثل آيرلندا وهولندا وإسبانيا وبريطانيا… وغيرها، وجدت السلطات الفرنسية أنه لم يعد بإمكانها التخفي، واضطرت، صباح الأربعاء، إلى إصدار بيان باسم المتحدث باسم الوزارة، وليس باسم الوزير، فضلاً عن أنه لم يصدر عن رئاسة الجمهورية.
وجاء في البيان، المتسم بلهجة تبريرية: «ستحترم فرنسا التزاماتها الدولية، على أن يكون مفهوماً أن (نظام روما الأساسي) يطلب التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، وينص أيضاً على أنه لا يمكن مطالبة دولة ما بالتصرف بطريقة تتعارض مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية. وتنطبق هذه الحصانات على رئيس الوزراء نتنياهو والوزراء الآخرين المعنيين، ويجب أن تؤخذ في الحسبان إذا ما طلبت المحكمة الجنائية الدولية اعتقالهم وتسليمهم».
ويضيف البيان أنه «تماشياً مع الصداقة التاريخية بين فرنسا وإسرائيل، وهما ديمقراطيتان ملتزمتان سيادة القانون واحترام القضاء المهني والمستقل، تعتزم فرنسا مواصلة العمل بشكل وثيق مع رئيس الوزراء نتنياهو والسلطات الإسرائيلية الأخرى لتحقيق السلام والأمن للجميع في كل بقعة من الشرق الأوسط».
يفهم من بيان المتحدث باسم «الخارجية» أن باريس توفر مظلة الحماية من الملاحقة الجنائية لنتنياهو وغالانت، وأنه مرحب بهما في فرنسا متى يرغبان، رغم فداحة التهم الموجهة إليهما من محكمة دولية مستقلة (ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية). وأكثر من ذلك، فإن باريس ما زالت ترى أن إسرائيل ديمقراطية رغم عشرات آلاف القتلى بسبب الضربات الإسرائيلية في غزة ولبنان.
ثمة أسئلة تطرح نفسها بقوة؛ أهمها ثلاثة:
الأول: ما خلفيات الموقف الفرنسي الملتبس، خصوصاً أن باريس كانت من أولى الدول الداعية إلى إنشاء محكمة جنائية دولية؟ الثاني: كيف لباريس أن تبرر موقفها الراهن الامتناع عن اعتقال نتنياهو وهي التي ضغطت على جنوب أفريقيا من أجل القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حال مشاركته في قمة «بريكس» صيف العام الماضي، وكلاهما زعيم دولة لم توقّع على إنشاء المحكمة الجنائية؟ الثالث: هل خضعت فرنسا لعملية ابتزاز من قبل إسرائيل أو من الولايات المتحدة؟
يقول مصدر سياسي فرنسي إن القرار الخاص بـ«نتنياهو – غالانت» جاء من «السلطات العليا»؛ أي من «قصر الإليزيه» الذي «أخذ في الحسبان عاملين: الأول أن اليمين واليمين المتطرف وقفا وقفة رجل واحد ضد قرار المحكمة الجنائية الدولية، وأن المجموعات الموالية لإسرائيل، من بينها (المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا) أعربت طوال الأيام السبعة الماضية عن رفضها قرار توقيف نتنياهو عادّةً أنه إجراء (معادٍ للسامية) ولدولة إسرائيل. والعامل الثاني هو رغبة ماكرون في (تطبيع) علاقاته بنتنياهو انطلاقاً من مبدأ أن القطيعة معه سوف تحرمه من قدرة التأثير عليه، خصوصاً بالنسبة إلى الوضع في لبنان».
تتعين الإشارة إلى أن نتنياهو رفض مشاركة فرنسا في لجنة الإشراف على قرار وقف إطلاق النار بلبنان إلى جانب الولايات المتحدة، ولم يتراجع عن الرفض إلا بعد اتصال هاتفي بين ماكرون والرئيس الأميركي جو بايدن الذي تدخل لدى نتنياهو لرفع «الفيتو» الإسرائيلي. يذكر أن الأخير حمل القاضي الفرنسي في المحكمة الجنائية الدولية مسؤولية صدور قرار الاعتقال بحقه. أما العامل الثالث، فقد كشفت عنه صحيفة «هايوم إسرائيل (إسرائيل اليوم)» نقلاً عن وزير إسرائيلي، ومؤداه أن ثمن مشاركة فرنسا في اللجنة المذكورة كان التنازل عن الالتزام بتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية. ووفق هذا الوزير، فإن تل أبيب كانت «ستصر» على رفض فرنسا لو لم تخضع للمطلب الإسرائيلي. ولا حاجة إلى التذكير بالعلاقة المتوترة التي سادت بين ماكرون ونتنياهو والكلام الجارح الذي أطلقه الثاني بحق الرئيس الفرنسي أكثر من مرة، خصوصاً بعد أن دعا ماكرون إلى وقف تسليح إسرائيل، مما عدّه نتنياهو «عاراً» على فرنسا.
تتلطى باريس، في فذلكتها، وراء مادة غامضة وردت في «القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية». إلا إنها تجاهلت نص «المادة 27» الذي يقول بوضوح إن أحكامها «تنطبق على الجميع بشكل متساوٍ ومن غير أي تمييز مرده إلى الصفة الرسمية (للشخص المعني)». وتقول الفقرة الثانية من المادة نفسها إن «الحصانات أو القواعد المتعلقة بالصفة الرسمية للشخص؛ إنْ بسبب القانون الداخلي (للمحكمة)، أو القانون الدولي، لا تمنع المحكمة من ممارسة صلاحياتها إزاء الشخص المعني». وقانون المحكمة واضح تماماً ولا يوفر الحصانة لأي شخص خارج دولته؛ أكانت دولته وقّعت أم لم توقع على القانون الأساسي. ولكن باريس التي وجدت نفسها أمام الاختيار بين التزاماتها بقانون المحكمة، والتزاماتها الدولية، فضلت اختيار الثانية على الأولى لأسباب سياسية واضحة. لكن في المقابل، ووفق ما يقول سفير فرنسي سابق في المنطقة، فإن باريس، بقرارها الأخير، «ضربت بمصداقيتها عرض الحائط، خصوصاً أنها دأبت على تأكيد أنها لا تزن بميزانين ولا تكيل بمكيالين» في ما خص القانون الدولي وملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
في تصريحاته يوم الأربعاء، وضع جان نويل بارو، وزير الخارجية، ملف «نتنياهو – غالانت» بيد القضاء الذي يعود إليه، عملياً، إصدار قرار القبض على الاثنين من عدمه. بيد أن بيان وزارته لم يعد يحتاج إلى أي تأويل؛ لأنه بالغ الوضوح؛ إذ كيف لباريس أن تسعى للقبض على نتنياهو بينما هي «عازمة على مواصلة العمل معه بشكل وثيق».
وكان لافتاً أن رئيسة مجلس النواب، يائيل براون بيفيه، المعروفة بصداقتها لإسرائيل، لم تتردد في تأكيد أن فرنسا، بصفتها موقّعة على «القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية»، «يتعين عليها تطبيق القواعد و(القرارات) المعمول بها» وبالتالي توقيف نتنياهو وغالانت في حال قدومهما لفرنسا. لكن النصوص القانونية يمكن تسخيرها وتفسيرها بشكل يخدم المصالح الآنية للدولة أكانت موقّعة أم غير موقّعة.
عذراً التعليقات مغلقة